هذا الخُلق لازم للداعية مع نفسه، ومع من يدعوهم، ومع من تبعه على دعوته، ولا يتخيل داعية من الدعاة بغير هذا الخُلق؛ لأن التواضع يقابله الكبر، والمتكبر لا يوفق للخير والإيمان، فضلًا عن أن يكون في مرتبة الدعاة، قال سبحانه: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَق} [الأعراف: 146]، وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} [القصص: 83].
وليعلم الدعاة أن الناس لا يتبعون من يتكبر عليهم ويرى لنفسه الفضل دونهم، وإنما يتبع الناس من يرفق بهم ويشفق عليهم ويرحمهم ويتودد إليهم، ولذلك قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]، وقال تعالى فيه أيضًا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد» رواه مسلم وأبو داود.
وفيه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله تعالى».
وإنما يحمل على التواضع أمران:
- معرفة قدر النفس، ومعرفة فضل الرب.
- ثم النظر في أحوال السلف، ومقارنة أحوالنا بأحوالهم لنقف على حقيقة الحال.
فأين أنت لولا فضل الله عليك وتوفيقه لك؟ ومن الذي هداك لطريق العلم ويسر لك أسبابه، وفتح لك أبواب الفهم، وأعطاك القدرة على الحفظ؟ شطارة من نفسك؟ أو نعمة من الله؟ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].
ومن لم يعرف قدر نفسه، ويوقفها عند حدها، وترك لخياله العنان، قادته نفسه حتى يعيش في الوهم، فيظن نفسه في مرتبة شيوخ الإسلام والأئمة الأعلام. فتجده يسب ويقبح ويرد ويجرح، وربما غلا في نفسه فنال من الصحابة رضي الله عنهم وتسمعه يقول: ومَنْ أبو بكر وعمر؟ وهم رجال ونحن رجال؟.. وهذا كثير للأسف.
وما هذا البلاء الذي نعيشه إلا لأن كل طويلب علم ظن نفسه حافظ العصر وواحد الدهر وفقيه الملة، فلا يترك قوله لقول أحد، ولا يرجع عن قوله، وإن خالف السابقين واللاحقين.
فأين هذا مما جاء عن الإمام مالك في مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم قال: قال ابن وهب: سمعت مالكًا سُئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء، فقال ليس ذلك على الناس، قال: فتركته حتى خف الناس، فقلت له: عندنا في ذلك سنة، قال: وما هي؟ قلت: حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُليِّ عن المستورد بن شداد القرشي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَدلِك بخنصره ما بين أصابع رجليه، فقال مالك: إن هذا لحديث حسن، وما سمعت به قط إلا الساعة، ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع.
هذا هو التواضع وبهذا تنال الإمامة.
فاعلم أخي الداعية: أن الاعتراف بالحق فضيلة، والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، ولأن يكون الإنسان ذيلًا في الحق خيرًا من أن يكون رأسًا في الباطل، فعليك بالتواضع فالزمه فإنه أعظم رأس مالك، وتأسِ بأخلاق سلفك عليهم رضوان الله.
يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعًا لله.
قال يونس بن الصرفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يومًا في مسألة، ثم افترقنا فلقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة؟
وهذه نسوقها للذين يقاطعون إخوانهم لأول خلاف أو مخالفة في رأي.
قال ابن المديني: كان ابن عيينة إذا سئل عن شيء قال: لا أحسن فنقول: من نسأل فيقول سل العلماء، وسَلِ الله التوفيق. (سير 8/ 467) .
وسألوه أن يحدث فقال: ما أراكم للحديث موضعًا، وما أراني أن يؤخذ عني أهلًا، وما مثلي ومثلكم إلا كما قال الأول: افتضحوا فاصطلحوا.
قال الشافعي: التواضع من أخلاق الكرام، والتكبر من شيم اللئام، التواضع يورث المحبة، والقناعة تورث الراحة.
قال عباس الدوري: حدثنا علي بن أبي فزارة جارنا قال: كانت أمي مقعدة من نحو عشرين عامًا فقالت لي يومًا: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي، فأتيت فدققت عليه، وهو في دهليزه، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب فقال: نحن أحوج أن تدعو الله لنا، فوليت منصرفًا، فخرجت عجوزٌ فقالت: قد تركته يدعو لها، فجئت إلى بيتنا فدققت الباب فخرجت أمي على رجليها تمشي. (سير 11/ 211) .
قال المرُّوذي: قلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك؟ قال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا بأي شيء هذا؟ . (سير 11/210) .
قال الشافعي: أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله.
هذا هو التواضع وهؤلاء هم الناس: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام: 90].
المصدر: موقع الشبكة الإسلامية.